الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

( الضوء ينير دروب عصر التنوير العلمي )


د/ أحمد بن حامد الغامدي

 
الضوء كلمة مشرقة بالأنوار في ذاتها وهي في نفس الوقت لفظة (كثيفة الظلال) بالمعاني ولهذا أسرف الفلاسفة والشعراء والوعاظ  في الارشاد لها وتبجيلها ولكن في تقديري الشخصي (المنحاز للعلم بحكم كونه من أبناءه) لم يفتن أحد بالضوء مثل العلماء وتكفي مقولة كبيرهم وحامل مشعل العلم الحديث أينشتاين عندما أعلنها مدوية (الثابت الوحيد في هذا الكون هو الضوء وما سواه نسبي). وبحكم أن هيئة اليونيسكو الدولية احتفلت هذه السنة بدور الضوء في اشعاع النور على الحضارة البشرية ولهذا أطلق على هذه العام (السنة الدولية للضوء 2015) والسبب في تحديد هذه السنة بالذات للاحتفال بالضوء أنها تصادف مرور ألف عام على السنة (1015 ميلادي) التي يعتقد بأن العالم العربي الكبير الحسن أبن الهيثم نشر فيها نظريته العلمية عن الضوء في مؤلفه المشهور (كتاب المناظر).

وكما أن الضوء كان نبراس دلالة ومشعل هداية في إضاءة دروب الحضارة البشرية فله كذلك الفضل بعد الله في خلود السيرة العلمية للعديد من العلماء والمكتشفين وهو ما سوف نحاول تسليط الاضواء الكاشفة عليه بسرد بعض ابرز وأغرب قصص العلماء والمكتشفين مع الضوء ولنبدأ بعريس حفلة النور الساطعة (الحسن ابن الهيثم). لن ننجر للبساطة في ذكر (الاشاعات العلمية) ونذكر القصة المختلقة والتي تربط بين الحسن ابن الهيثم والضوء واختراع الكاميرا وكيف أنه توصل لهذا الاختراع بعد أن كان مختبأ (وقيل محبوساً) في غرفة مظلمة بها ثقب صغير كان يراقب منه جنود طاغية مصر الحاكم بأمر الله فهي قصة مختلقة  وغير محبوكة التأليف فمن المستحيل واقعيا أن ثقب صغير بالجدار أو قماش الخيمة ينتج عنه صوره معكوسة وغير مشوشه وباهت المعالم.

في المقابل ما يمكن ذكره بكل فخر عما ثبت من انجازات ابن الهيثم وابحاثه عن الضوء أنه استطاع أن يوظف خبرته  العلمية عن ظاهرة انكسار الضوء نتيجة مروره بأوساط مختلفة ويستخدم قياس درجة انكسار اشعة الشمس عند دخولها للغلاف الجوي (حسب ابن الهيثم ان ظاهرة شفق الشمس تحصل عند انكسار اشعة الشمس بزاوية 19 درجة) لكي يحسب سمك الغلاف الجوي بحيث قدر ارتفاعه بحوالي 15 كيلومتر وهي تقريبا نصف قيمة الارتفاع المعروف للغلاف الجوي في طبقته الدنيا.

أما ثاني وابرز شخصية علمية ارتبطت بالضوء فهي بلا شك اسطورة علم الفيزياء اسحاق نيوتن ولن أعرج على قصته المشهورة لجميع طلاب المدارس في استخدام المنشور لتحليل واثبات أن الضوء عبارة عن خليط من الالوان لكن ما أود التوقف عنده أن الضوء أو الطيف المرئي يحتوي على تشكيلة واسعة من الالوان المتدرجة (عبر المجال 380-750 nm) وليست سبعة الوان فقط والمحرج حقا أن نيوتن اختار حصر الوان الطيف في العدد سبعة لأسباب غير علمية على الاطلاق. حيث تشير المصادر التاريخية أن نيوتن اختار العدد سبعة بالذات لأن له وفق الاعتقادات الاغريقية  القديمة  روحانية خاصة  كما أن نيوتن اشار في كتابة المشهور (البصريات Opticks) إلى اعتقاده بوجود ترابط بين الاوان السبعة للضوء ودرجات نغمة السلم الموسيقي المكون من سبعة نوتات  وهذه فكرة علمية سخيفة وانتقائية بشكل صارخ فأين الثرى من الثريا كما يقال.

وقبل ان نغادر أخبار ابو الفيزياء الحديثة نيوتن والضوء وعلى ذكر كتابه المشهور البصريات والذي نشره في عام 1704 نجد أن من الامور التي تحير العلماء والمؤرخين على حدا سواء أن نيوتن ذكر بالنص في هذا الكتاب المنشور قبل أكثر من ثلاثة قرون (ينتشر الضوء من الاجسام المضيئة ويستغرق ما بين سبع إلى ثمان دقائق من الساعة ليقطع المسافة من الشمس إلى الارض) وهنا مصدر الغرابة فعلى ماذا اعتمد نيوتن على تحديد هذه الفترة الزمنية لوصول ضوء الشمس للأرض خصوصا إذا علمنا أن الفترة الزمنية المقبولة علميا هي ثمان دقائق وعشرون ثانية أي بمعنى أن نيوتن خمن سرعة الضوء بدقة تتفاوت بين 85-98 % علما بأن دقة قياس سرعة الضوء في زمن نيوتن التي أجراها علماء أخرون مثل عالم الفلك الهولندي أوول رومر بلغت فقط 75% من سرعة الضوء المقبولة علميا ( أي 299792 كيلومتر في الثانية) فمن اين لك هذا الحدس الصائب يا أستاذ نيوتن.

وعبر القرون الماضية بذل العديد من علماء الفيزياء والفلك جهود مضنية لمحاولة قياس سرعة الضوء التي تعتبر أسرع ما في الكون  ولهذا نجد أن الفيزيائي الامريكي والبولندي الاصل ألبرت ماكيلسون دخل التاريخ من أوسع أبوابه عندما تمكن عام 1879 من قياس سرعة الضوء وبنسبة عالية جدا من الدقة (100.02%) ولكن الاغرب في علاقة ماكيلسون والضوء ليس نجاحه في تحقيق هذا الانجاز العلمي المميز ولكن في وصوله لنتيجة غير متوقعة مرتبطة بالضوء تتعلق بإيجاد الدليل العلمي الدامغ على عدم صحة نظرية (الاثير) وهو الوسط الذي كان يتخيله ويفترضه العلماء بأن الضوء ينتشر خلاله حيث لم يكن معروفا من قبل بأن الضوء يستطيع الانتشار في الفراغ التام. الطريف في الأمر أنه عندما منح ماكيلسون جائزة نوبل في الفيزياء عام 1907 كان ذلك أول وآخر مره في التاريخ يتم منح جائزة نوبل لشخص قام بإجراء تجربة معملية تنفي نظرية علمية ولا تثبتها.

الجدير بالذكر أنه قبل منح ماكيلسون جائزة نوبل بسنتين أي في عام 1905 قام العالم الشهير ألبرت اينشتاين بنشر نظريته النسبية الخاصة والتي كان أحد دوافع الالهام لها الضجة العلمية الكبيرة بين العلماء بعد إثبات عدم وجود الأثير (لماذا ما زال الخطأ الشائع مستمراً بأننا نسمع البث الاذاعي غبر موجات الأثير ). وبهذه المناسبة يصح التنبيه كذلك على أن من الاخطاء الشائعة المنتشرة كذلك أن أينشتاين قد حصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1921 كتكريم لعبقرتيه العلمية عن اكتشافه للنظرية النسبية وتوصله للمعادلة العلمية الأكثر شهرة وشيوعا في تاريخ العلم (E= mc2) إلا أن الحقيقة الصادمة أنه حصل جائزة نوبل على موضوع علمي وثيق الصلة بالضوء حيث اكتشف أن الضوء مكون من جسيمات (عكس ما كان شائع أن الضوء عبارة عن موجات فقط) عديمة الكتلة تسمى الفوتونات وبذلك تمكن من تفسير ظاهرة التأثير الكهروضوئي والتي هي أساس تقنية إنتاج الكهرباء من ضوء الشمس.

لكن  لا يقف الأمر عند هذا الحد فالغريب في الأمر أن اينشتاين بالرغم من نشره للنظرية النسبية عام 1905 إلا أنه لم يشتهر عالميا بشكل واسع إلا عام 1919 وذلك بسبب تجربة علمية تتعلق مرة أخرى بالفوتونات وأشعة الضوء ونجم الشمس. فقد قام اينشتاين عام 1911 بإجراء حسابات علمية ورياضية تتنبأ أن الضوء القادم من نجوم أخرى يحصل له انحناء طفيف عن مساره عندما يمر قرب الشمس مما يدل على أن الضوء يتأثر المجالات وخطوط الجاذبية بالرغم من كون الضوء عبارة عن فوتونات عديمة الكتلة. وللتأكد من صحة هذه الفرضية قام العالم البريطاني السير إدينقتون بتنظيم رحلة فلكية خاصة قرب سواحل  غرب أفريقيا لرصد درجة انحاء الضوء أثناء حصول ظاهرة كسوف الشمس حيث يمكن الرصد بوضوح أفضل اثر تغير مسار الضوء. اللطيف في الأمر أنه علق بعض الخبثاء بقولهم أن عالم بريطاني يرتب لرحلة علمية طويلة ومكلفة أثناء الحرب العالمية بهدف إثبات نظرية عالم ألماني دولته في حالة حرب مع بريطانيا وينتج عن ذلك نسف نظرية اهم عالم انجليزي على الإطلاق ألا وهو إسحاق نيوتن وهذا ما كان عناوين الصحف البريطانية في ذلك اليوم.

ومن الأدلة التاريخية والعلمية التي يمكن سياقها في مجال التدليل على أنه يقع أحيانا أن لا يكون لسياسة أثر اقصائي على العلم والعلماء أنه في عز سنوات الحرب بين بريطانيا وفرنسا نجد أن العلماء البريطانيين ممثلين في الجمعية الملكية في لندن (وهي من أهم الجمعيات العلمية قديما وحديثا) تقوم في عام 1810 بتقديم دعوة للحضور للعالم الفرنسي إيتين مالوس لإقامة حفل رسمي لتكريمه بمنحة ميدالية رومفورد العلمية المرموقة كتكريم له على اكتشافه العلمي المميز لظاهرة ما يسمى  الضوء المستقطب.

وختاما وقفة مختصرة مع عصر التنوير (أو عصر الأنوار) فصحيح أن ارتباط هذا العصر بالضوء واضح لكل ذي عينين بدلالة المسمى اللغوي لهذه الحركة الفلسفية والفكرية  والثقافية وحتى العلمية ولكن الذي يخفى علي البعض أن عدداً من اشهر رموز عصر التنوير كان لهم (ارتباط وتجارب علمية) حقيقة بمجال ابحاث علم الضوء. من ذلك مثلا أن الاديب الالماني الكبير جوتية عندما نشر في عام 1810 وهو في الستين تقريبا كتابه العلمي عن دراسة الضوء والذي سماه (نظرية في الالوان)  كان يعتقد أنه بسبب هذا الكتاب العلمي سوف تتذكره الاجيال القادمة وليس بسبب انتاجه الادبي.

أما رمز عصر الانوار بدون منازع وهو الشاعر والاديب الفرنسي الشهير فولتير فقد كان له هو الآخر اهتمام بالعلوم في أوائل شبابه وذلك عندما أعلنت الاكاديمية الفرنسية للعلوم في عام 1738 عن جائزة مالية لأفضل مقالة علمية تناقش طبيعة النار (مصدر اشعاع الضوء الشائع) وهنا نجد فولتير يجرى مجموعة من التجارب العلمية ويبدو أن نتائجه العلمية  كانت على درجة من الجودة بحيث أنها تم نشرها مع ثلاث مقالات فازت بالجائزة.

وهذا الفيلسوف الفرنسي الأشهر رينية ديكارت الشهير بأبو الفلسفة الحديثة كان له هو الآخر اهتمامات علمية متعددة كان من أبرزها قيامه في عام 1637 بتأليف كتاب يناقش انكسار الضوء عند مروره في الاجسام المختلفة واسباب ظاهرة انحراف وانكسار الضوء.

من هذا وذاك واضح أن طريق النور العلمي طويل ومتشعب وشمل أشهر وابرز الشخصيات العلمية التي اقتبست من مشكاة العلم وحملت مشاعل الانوار للإضاءة مجاهيل دروب الاكتشافات العلمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق