الجمعة، 30 سبتمبر 2016

( توظيف الكيمياء في الشعر العربي )

المقال الحالي منشور بالتفصيل في مجلة الفيصل الأدبية
 
 
د/ أحمد بن حامد الغامدي

يشتهر عن علم الكيمياء قديما و حديثا بأنه علم تحويل المادة فحديثا كما نصنع من الخزف فناجين القهوة التقليدية فيمكن كذلك تحويل مادة الخزف تلك إلى بعض مواد أشباه الموصلات الالكترونية التي قد تجد طريقها لحاسبك الآلي. أما قديما فأرتبط فن صنعة (السيمياء) كما هو معلوم بمحاولة تحويل النحاس المبتذل الخسيس إلى الذهب الإبريز النفيس. من المعلوم أن جهود الكيميائيين القدماء المنصبة حول تحويل المعادن ذهبت أدراج و بعيدا عن دهاليز الاحتيال و التفليس وجدت الكيمياء بيئة جديدة تزدهر فيها حيث تم توظيفها و استخدامها في رياض و أورقة الأدب هذه المرة. و لعل هذا ما دفع الأديب خليل بن أيبك الصفدي ليعلق بتهكم و خبث على فائدة علم الكيمياء بقولة (صناعة الكيمياء لم تصح في العلم و لكنها صحت في العشق و الأدب). و يدل على ذلك مئات الأبيات و عشرات الشعراء الذين وظفوا بعض مفاهيم و أدوات و رموز الكيمياء بل حتى أسماء رجالاتها (كجابر بن حيان) في أشعارهم منتجين بذلك صورا أدبية و شعرية بديعة و رائقة.
 و الأمر أبعد من ذلك فبعض الشعراء الكبار هم في الأصل من أصحاب مهنة الكيمياء أو ممن تعلموها على الأقل و هذا ما نجده في شخصيات أدبية لامعة مثل الطغرائي و كمال الدين أبن النبية  و عمر أبو ريشة بل أن الكيميائي و الأديب الأندلسي (أبن أرفع رأس) صاحب ديوان شذور الذهب في صنعة الكيمياء كان له مكانه أدبية مرموقة وصلت لدرجة أن قيل عنه أنه لو لم يكن لأهل الأندلس غير كتاب شذور الذهب لكفاهم ذلك دليلا على بلاغتهم و من ألطف ما قيل عن ديوانه الشعري ذاك (إنه إن فاتك ذهبه لم يفتك أدبه).
لقد تسرب لبعض الشعراء عن طريق إطلاعهم الاجتماعي و الثقافي خبر سعي السيميائيين القدامى و فشلهم في تغيير و تحويل طبيعة الأشياء و لهذا تلاعب بعضهم بالأفكار و العبارات ليضمن شعره توظيف بديع لبعض الصور و المفاهيم الكيميائية و خصوصا فكرة تحويل الشيء من خسيس مبتذل إلى ثمين مقدر.
الكيمياء بين الهجاء والمدح
ففي مجال الهجاء نجد أن من عادة أبن الرومي إبداع أبيات شعرية غاية في السخرية تصل لحد تصوير أشكال كاريكاتورية مشوهة عن الشخص الذي يهجوه كما في أبياته الشهيرة عن الأحدب و عن البخيل. لقد سمع أبن الرومي بأن صنعة الكيمياء تغير الأشياء الوضيعة إلى أشياء ثمينة ولهذا نجده يسخر ويتندر من شخص يدعى أبي صقر من أصل عجمي لكنه أدعى لنفسه أنه من أصل عربي أصيل من قبيلة شيبان. وهنا نجد أبن الرومي يسخر منه ويقول انه ربما قامت الكيمياء من خلال الإكسير أو حجر الزرنيخ بتحويل نسبه الأعجمي المتواضع إلى نسب عربي نفيس: 
مثلَ أبي الصقرِ إن فيه وفي       دعواهُ شيبانَ آيةً عجبا
بيناهُ عِلْجاً على جِبلَّتهِ              إذ مسَّه الكيمياء فانقلبا
عرَّبَهُ جَدُّهُ السعيدُ كما              حَولَّ زِرْنيخَ جدِّهِ ذهبا
وهَكذا هذه الجدودُ لها             إكسير صدقٍ يُعرِّبُ النسبا

 

أما في مجال المديح فهذا باب واسع و أمثلته الشعرية الرائقة كثيرة في الشعر العربي  حيث غالبا ما يشبة الشاعر ممدوحه بأن له تأثير الكيمياء فالشعراء يعطونه كلامهم و مديحهم مكتوبا في صفحات الورَق التي لا تساوي شيء وهو بدوره يحيل كلامهم و عباراتهم إلى عطايا الذهب و الورِق (الفضة) ومن الصور الجيدة في ذلك أبيات فتيان الشاغوري إذ يقول:
ما في سَلاطينِ هَذا العَصرِ كُلِّهِمِ        كَابنِ المُعِزِّ يُعِزُّ الفَضلَ وَالأَدَبا
مِن جودِهِ صَحَّ عِلمُ الكيمياءِ لَنا          وَلا نَرى الكيميا إِلا إِذا وَهَبا
نُهدي إِلَيهِ بُيوتَ الشِعرِ في وَرَقٍ        فَنَأخُذُ الوَرقَ المُختارَ وَالذَهَبا
وهذا الشاعر أبو بكر الخالدي يتعجب هو الآخر ويفاخر بكيمياء ممدوحه التي تحيل القرطاس الرخيص إلى ذهب نفيس فهو بذلك جدد الآمال أن الكيمياء يمكن أن تكون مما يصح وينفع:
وتَيَقْنَ الشُّعراءُ أَنْ رَجاءَهم        في مَأْمَنٍ بِكَ مِنْ وقوعِ الباسِ
ما صَحَّ عِلْمُ الكيمياءِ لِغَيْرِهِمْ       فيمَنْ عَرَفْنا مِنْ جَميعِ النّاسِ
تُعطيهِمُ الأَمْوالَ في بِدَرٍ إِذا       حَمَلوا الكَلامَ إِليْكَ في قِرْطاسِ
صحيح أن هؤلاء الشعراء تفننوا في إبراز الكرم الحاتمي لممدوحيهم عن طريق رسم الصورة الشعرية أن كيمياء الكرم تحيل الأوراق إلى ذهب، لكن هنالك شعراء تجاوزوا في توصيف كرم ممدوحهم بأنه ليس فقط يحيل الأشياء المحسوسة الرخيصة مثل الورق إلى ذهب، يحيل الأشياء غير الملموسة مثل اللفظ المجرد إلى ذهب ولك أن تتصور ما قيمة لفظ اللافظ:
يا طالباً للكيمياءِ أقِلّ قد              أصبحتَ ويْكَ حليفَ عيشٍ باهظِ
ما صحّ علمُ الكيمياءِ لغيرِ مُد       احِ الإمام الأريحيّ الحافظِ
يعطيهمُ الأموالَ إذ يُعطونَه        لفظاً وما مقدارُ لفظِ اللافظِ
 
 
الغزل الكيميائي
 و لمن يعشق الغزل و النسيب فهذا أبن رشيق القيرواني يتغزل بمحبوبته و يستعين في ذلك بسحر إكسير الكيمياء حيث يصف كيف تبدأ التفاعلات الكيميائية في تغيير و قلب صفحة وجنات خديّ محبوبته إلى اللون الذهبي الذي يتجلله الاحمرار بسبب الحياء من نظرات الحبيب :  
متورّدُ الوَجَنَاتِ ما حيَّيْتهُ       إِلاَّ ارتدى ثوبَ الحَياءِ مُورَّدا
أَلقيتُ إِكسيرَ اللِّحاظِ بِخَدِّه       فقلبتُ فِضَّةَ وَجْنَتَيْه عِسْجداً
ولعل الشعر الأكثر رقة وجمالا قول الآخر في محبوبه:
عَبَثَ الدَّلاَلُ بِصُدْغِهِ فَتَجَعَّداَ          رَشَأٌ أجَالَ عَلَى العَقِيقِ زَبَرْجَداَ
وَانْحَلَّ إكْسِيرُ الحَيَاءِ بِخَدّهِ             فَأحَالَ فِضَّتَهُ النَّقِيَّةَ عَسْجَداَ
وَجَرَتْ مِيَاهُ الحُسْنِ فِي وَجَنَاتِهِ       فَعَلِمْتُ أنَّ الوَرْدَ كَلَّلَهُ النَّدَى
وللحقيقة نقول أن التوصيف السابق صورة متكررة ومطروقة عند العديد من الشعراء فهذا الشاعر الكبير كمال الدين ابن النبية يكرر نفس الصورة الشعرية بتلون خد الحبيب من الحياء فكأن الكيمياء أثرت علية فحولت لونه الفضي إلى لون الإبريز:
يا شَيِبهَ الغَزَالِ طَرْفاً وَجِيداً       وَفُؤَاداً مُسْتَهْضَماً وَنِفَارَا
صَنْعَةُ الكِيمياء صَحَّتْ لِعَيْنِي      حِيْنَ تَزْدادُ إِذْ تَرانِي احْمِرارَا
فإِذْا ما أَلْقَيْتُ أُكْسِيرَ لَحْظِي       فِي لُجَيْنِ الخُدُودِ صارَ نُضارَا
 
ولحسن الحظ من جانب و لغزارة الصور التشبيهيه المستخلصة من الكيمياء من جانب آخر نجد شعراء آخرين أبدعوا لوحات شعرية ومجازية لطيفة في توظيف الكيمياء في الشعر. من ذلك على سبيل التمثيل استخدام العمليات و المراحل التي تمر بها التجارب الكيميائية و التي كانت قديما (ولا تزال) تعطى تسميات مثل التصعيد و التقطير و التكليس و التصفير و غير ذلك. لذلك اطرب أيها القارئ مع كمال الدين ابن النبية الذي يتشكى من أن الحب سبب السقام لجسده فكأن جسده أنبوب اختبار تتم فيه التجارب الكيميائية من التصعيد و التقطير المجازي و نتيجة لذلك أصفر جسمه فصح بذلك أن كيمياء الحب تمنح اللون الذهبي ولو على بشرة جلد العاشق وليس المعشوق هذه المرة:
تَعَلَّمْتُ عِلْمَ الكِيمِيَاءِ بِحُبِّهِ               غَزَالٌ بِجِسْمِي ما بِجَفْنَيْهِ مِنْ سُقْمِ
فَصَعَّدْتُ أَنْفاسِي وَقَطَّرْتُ أَدْمُعي       فَصَحَّ بِذا التَّدْبِيْرِ تَصْفِيرَةُ الجِسْمِ
وفي صورة شعرية آخرى نجد هذه المصطلحات الكيميائية من الإذابة والتصعيد هي سر الحبكة الفنية التي يبني عليها عامود الشعر كقول أحدهم:
عجبا لوجهك والقوام كلاهما             بدرٌ سعى غُصنٌ به يتأوّدُ
عجبا لطرفك واللّسان مع الهوى       هذا يُعرّفُهُ وهذا يجحدُ
إكسيرُ نفسي في هواك أذبتهُ            أو ما تراها في هواك تصعدُ
وهذا شعر كيميائي آخر بديع يصف الشاعر جفون عينية و كأنها وعاء كيميائي تسيل منه دموع الوله كأنها قطرات تتجمع من أوعية و أنابيق الكيمياء:
أَجريت جفني مُذ أَذَبت حَشاشَتي          فَتَقَطَرَت مِن ذَلِكَ الأَنبيق
فَانظر باكسير الجَمال لِينثَني            صفري بِهِ شَمساً عَلى التَحقيق
وَاعطف علي بِنَظرة مِن نَرجس       وَبِرَشفة مِن جَوهر وَعَقيق
 
شعر الوصف واللغة الكيميائية
كما هو معلوم يشتهر الشاعر العربي الكبير ابن الرومي بشعر الوصف للأشخاص والاحداث والتقاط الصور الشعرية لسلوكهم في الحياة ومن ذلك وصفه لرجل يصنع أكلة الزلابيا وهنا يقوم ابن الرومي بتوظيف رائق لتشبية دور زيت القلي الساخن في تحويل العجين الابيض إلي خطوط مشبكة (مقلية ومقمرة) ذهبية اللون كما تفعل الكيمياء في تحويل خام المعادن إلي ذهب أصفر:
ومُستقرِّ على كرسية تَعِبٍ        روحي الفداءُ لم من مُنصَبٍ نَصِبِ
رأيته سحراً يقلي زلابيةٍ          في رقِة القشر والتجويف كالقصبِ
كأنما زيته المغلي ُ حين بدا       كالكيمياء التي قالوا ولم تصبِ
يُلقي العجين لجيناً من أناملهِ     فيستحيلُ شبابيطاً من الذهبِ
 
 وعلى كل حال لابد من الإشارة بأن أغلب توظيف الشعراء للكيمياء في فن وباب الوصف كان في مجال وصفهم للخمر وتحول لون شراب الخمرة وكأن سبب هذا التغير حصول تفاعل كيميائي قام به ساقي الخمرة:
خضراءُ آتايٍ استحالَ سُندسُها       ورساً سروراً لراءٍ ما لَهُ واقِ
أآذنت بغروبٍ شهبها فبدت           صفراً أم الكيمياءُ في يد الساقي
وهذا الشاعر بطرس كرامة يوظف هو الآخر ما اشتهر عن علم السيمياء في تحويل الحقير إلى النفيس ومن هنا فهو يصف الخمرة بأن لها هي الآخر أثر السيمياء حيث تحيل الأتراح إلى أفراح:
برزت تجلى على عرش الفرح        بنت كرم فأرتنا العجب
سبكت بالدن اكسير الفرح               فلذا شاهدت فيه اللهب
من رمى فوق قناطير الترح           درهما منه راءه ذهب
 
الرثاء والكيمياء
و أخيرا نختم توظيف الكيمياء في أبواب الشعر التقليدية بإعطاء نموذج أخير لشعر الرثاء لكن مع اختلاف بسيط يتمثل في أن توظيف الكيمياء أتى هنا عن طريق استعارة أسماء العمليات والتجارب و التفاعلات الكيميائية في توصيل الفكرة الشعرية المبتكرة. فهذا الشاعر محمد الهلالي يستعير التجارب المنتشرة عند الكيميائيين مثل عمليات التقطير و التصعيد و التصفير لتحضير المركبات الكيميائية و لكنه يحرفها عن معناها التقليدي عند أهل صنعة الكيمياء و يوظفها في بلاغة استعارية مبدعه في وصف تقاطر الدموع و تصاعد الشهقات و اصفرار الجسم حزنا على الشخصية المرثية:
قدر ألم بنا فقد الذي                    فجع الورى بوفاته المقدور
كنز مضى وكاننا من بعده            كل بعلم الكيمياء خبير
من آهنا ودموعنا ووجوهنا ال       تصعيد والتقطير والتصفير


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق