الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

( الهيام بالكتب .. وعشق الاوراق )

عشاق الكتب في لندن اثناء ويلات الحرب العالمية الثانية

د/ أحمد بن حامد الغامدي


الادمان كلمة فضيعة الظلال ووخيمة المئال وبحكم أن لكل قاعدة شواذ (فالإدمان الحلال هو قراءة الكتب) ولا عيب ولا تثريب على من كانت القراءة هي خمره وسكره. وإذا اعتبر النابغة الذبياني أن السيوف المثلمة قد تكون دلالة على الشجاعة والاقدام وأنه لا عيب على من كان هذا حال سيفه:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم      بهن فلول من قراع الكتاب

ولذا علق أحد الظرفاء بأن لا عيب يحسب على (المثقفين) غير أن كتبهم ممزقة من كثرة التفتيش والقراءة. وليس فقط الكتاب خير جليس وألطف أنيس ولكن يضاف لذلك أن من تسامت روحة الفكرية والمعرفية يستلذ بحقيقة أن ( أعز عشيق في الدنى كتاب مفتوح). ولهذا لا عجب أن نجد شخصا قد جرب جميع أصناف المتع والشهوات مثل الخليفة المأمون عندما سأل ما ألذ الاشياء قال التنزه في عقول الناس (يعني القراءة).


ولا تظن أيها القارئ الكريم أن خلط اللذة بالمتعة الذهنية الناتجة من القراءة هي نوع من المجاز الأدبي الصرف فواقع الحال أنه أبعد من ذلك. فكما هو معروفة ثمرة القراءة (تلاقح الأفكار) وهذا التلاقح هو عملية التمازج الذهني وهي عملية ذات إيحاءات عاطفية صريحة ولهذا نجد الكاتب الارجنتيني المشهور ألبرتو مانغويل صاحب الكتاب الرائق (تاريخ القراءة) يقرر بكل وضوح (.. يشكل فعل القراءة علاقة حميمة وجسدية مع الكتاب بمشاركة جميع الحواس: العين تجمع الكلمات على الصفحة، والأذن ترجّع صدى الكلمات المقروءة، والأنف يشم رائحة الورق والصمغ والحبر، والأنامل تتحسس الصفحات، وحتى حاسة الذوق تشارك في العملية عندما يلعق القارئ أصبعه ليقلب الصفحة). وبعد هذا الاستغراق في الهيام الورقي هل تعلمون عاشقا يتقاسم كل هذه المشاعر والحواس مع معشوقة ومحبوبة.


سأل الاديب العربي الكبير الأصمعي امرأة أعرابية : ما العشق عندكم ؟ قالت الحديث والنظر والحياء وهذا ما يعرف بالحب العذري فهل دلائل وعلامات مثل هذا العشق تنطبق على الغرام بالكتب. وما يهمنا هنا من علامات ودلائل العشق هو أن أول هذه العلامات هي إطالة النظر في المحبوب ومداومة وتكرار النظر إليه وسهر الليالي الطوال في الخلوة به. وهذا ما حصل بالضبط مع الاديب واسع الثقافة الجاحظ فقد ذكر عنه أنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر (يعني يستأجر محلات نسخ الكتب لكي يسهر الليل وهو يقرأ). وعلى نفس الوصفة السحرية بالتعلق وعشق الانفراد بالكتب مشى الطبيب والفيلسوف الكبير أبن سينا فعندما نجح وهو بعد في أوائل الشباب في شفاء سلطان مدينة بخارى نوح بن منصور وطلب منه الامير أن يحدد مكافأته وهنا ما كان من ابن سينا إلا أن اهتبل الفرصة وطلب من السلطان أن يسمح له بأن يتردد على مكتبته الضخمة التي في قصرة والتي قيل أنها كانت تحتوي أكثر من ثلاثين ألف كتاب تمكن ابن سينا من قراءة أغلبها بعد ان سمح له بأن يقضي فيها ما يشاء من الوقت حيث كان يسهر الليل وهو يجالس ويأنس بالكتب. وهذا العالم البارز مايكل فاراداي أحد أهم العلماء الإنجليز على مر العصور بالرغم من أنه ولد لعائلة فقيرة جدا ولم يتلقى أي تعليم نظامي لكنه مع ذلك كون لنفسه ثقافة علمية جيدة عندما اشتغل وهو يافع في مهنة تجليد الكتب ومن هنا تسلل له عشق الكتب من أول لمحة وبهذا تشكل له أول علامات الغرام وهي إطالة النظر في المحبوب وهي الكتب التي كان يجلدها وأغرم بشكل خاصة بقراءة مجلدات الموسوعة البريطانية. 


ولعل هؤلاء العشاق للكتب وغيرهم كثير في عزلتهم وانغماسهم في الخلوة والسمر مع الكتب  كانوا ينساقون خلف الحكمة الذهبية التي قررها طيب الذكر المتنبي (وخير جليس في الزمان كتابُ) أو كأني بهم يستلهمون الابيات الرائعة التي تعرض فيها أمير الشعراء أحمد شوقي لصحبة الكتب عندما قال:

أنا من بدل بالكتب الصحابا      لم أجد لي وافيا الا الكتابا

رب ليل لم نقصر فيه عن        سمر طال على الصمت وطابا


ولا شك أن هؤلاء المشاهير في خلوتهم بالكتاب كانوا في غاية السعادة والهناء الروحي وكأنهم في رياض الجنان ولهذا وافق الكاتب عباس العقاد الاديب توفيق الحكيم عندما كتب متخيلا أن العقاد قد دخل الجنة ولما لم يجد فيها مكتبه ضجر منها (استغفر الله العظيم) بقولة: ما هذا؟ جنة بغير كتب؟ .

على كل حال وكما هو معلوم من حال بعض العشاق أنه لا يكاد يطيق أن ينفصل عن محبوبه ومن عشاق الكتب من حصل له ذلك فهذا عالم النحو الكوفي الإمام ثعلب يحكى عنه أنه كان دائما لا يفارقه كتاب يقرأ فيه  ومن طريف ما يذكر أن المحدث السجستاني من شدة عشقه للكتب كان يلبس ثوبا له كم عريض وكم ضيق فقيل له لم ذلك ؟ فقل: الواسع للكتب والآخر لا أحتاج إلية. وعلى نفس النسق ذكر الجاحظ أنه سمع الفقيه الحنفي الحسن اللؤلؤي يقول عن نفسه أنه مر عليه أربعين سنة لم ينم قيلولة أو يبات بالليل ولا اتكأ وهو صاحي إلا والكتاب موضوع على صدره وهذا يذكرنا بما اشتهر عن أن العالم الكبير أبي حامد الغزالي مات وكتاب صحيح البخاري على صدره. وإذا كان بعض عشاق الاوراق الكتب لا تفارق صدورهم نجد بعضهم لا يمانع أن تلتصق الكتب بوجوههم فهذا الطبيب المسلم الشهير الرازي كان هو الآخر من العلماء الذين ينغمسون في القراءة ويكثرون القراءة ليلا ولهذا كان يفضل النوم على ظهره حتى إذا أخذته سنة من النوم وهو يقرأ سقط الكتاب على وجهه وبهذا يستيقظ ليواصل القراءة.


ومن لطيف ما يمكن أن يذكر عن شدة التعلق بالكتب والهيام بها أن البعض لا يفارقه الاطلاع على الكتب بشكل أو آخر حتى وهو الاوضاع الخاصة مثل أن يكون في الحمام يقضي حاجته. ومن أشهر القصص في هذا الشأن أن جد أبن تيمية الفقيه الحنبلي أبي البركات أبن تيمية كان يأمر أحد أحفاده إذا دخل الخلاء بأن يأخذ أحد الكتب ويقرأ بصوت عالي حتى يسمعه وبهذا يستفيد من الاستزادة من العلم مع محاولة تنزيه الكتب الشرعية من أماكن القذى ويذكر موقف مشابه للشاعر العباسي الفتح بن خاقان لمطالعته للكتب حتى في الخلاء.  وفي المقابل نجد أن بعض الادباء والمفكرين الغربيين لهم نفس درجة الولع بالكتب ولكن بعدم مبالاة بقضية تبجيلها من الاماكن المستهجنة ومن ذلك مثلا أن الكاتب الامريكي العربيد هنري ميللر أعلنها بكل صراحة (أفضل قراءتي حدثت في دورة المياه).


وفي موضوع ذي صله بالاستغراق والانغماس في احضان الكتب والاوراق نجد كثيرا ما يذكر عن بعض العلماء والفقهاء والفلاسفة والمفكرين (مثل الامام الشافعي والأمين الشنقيطي والحافظ الحكمي وأرخميدس ونيوتن) أنه من شدة انغماسه في قراءة الكتب كثيرا ما يهمل الاهتمام بنفسه فلا يتناول طعامه وشرابة حيث يضع الخادم أو الاهل الغذاء بالقرب منه ولا يشعر به ويبرد الاكل ويتم رفعه من جنبه وهو ما زال ساهي وغافل يناجي كتبه ويحادثها كما قال الأول:

لها أحاديث من ذكراك تشغلها        عن الطعام وتلهيها عن الزاد

يذكر أن المحدث الكبير الحافظ ابن حجر العسقلاني شدة ولعه بالقراءة ليس فقط لدرجة أنه يقرأ وهو يأكل بل وكذلك كان يقرأ وهو يمشي وفعل القراءة اثناء المشي قام به طائفة من مشاهير العلماء مثل المؤرخ الخطيب البغدادي والعالم النحوي ابو بكر الخياط.


وختاما لطالما سمعنا أن (من الحب ما قتل) والبعض يقول (حبك الشيء يعمي ويصم) فهل عشاق الكتب مبتلون بدفع ضريبة الغرام  الفادحة هذه. أما أن حب الكتب فتاك وقاتل فخير من يؤكد لنا هذه الفجيعة شهيد الكتب الجاحظ الذي كما هو معروف مات بسبب سقوط مكتبته عليه حيث كان من عادته أن يصفّ كتبه فوق بعضها محيطة به فسقطت يوما ما عليه فقتلته. وتذكر بعض كتب الاثار أنه بلغ شدة عشق المحدث ابن لهيعة للكتب أنه عندما احترقت مكتبته اغتم ومرض ومات بسبب ذلك. وأما حقيقة أن الافراط في القراءة قد يورث العمى فهذا ما حصل مع الطبيب أبو بكر الرازي فقد بصره في آخر عمره بسبب كثرة القراءة وهو نفس مصير المفسر الجليل أبن كثير الذي اصيب بالعمى هو الآخر بسبب الكتب حيث فقد بصره في آخر حياته وهو يؤلف كتاب جامع المسانيد وقل مثل ذلك للشاعر الملحمي الاغريقي هوميروس والشاعر الانجليزي البارز جون ميلتون الذين انظما لقافلة العميان. ومن لم يصب من عشاق الكتب بالعمى من كثرة القراءة لم يسلم من اصابته بمرض قصر النظر كم حصل مع عشرات مشاهير الفقهاء مثل الحافظ عبدالغني المقدسي أو المفكرين والادباء مثل ارسطو ومارتن لوثر ودانتي وغوته  والكسندر بوب وطاغور.

 
وقفة أخيرة مع صورة معبرة لعشاق الكتب ففي شدة قصف الطيران الالماني على مدينة لندن اثناء الحرب العالمية الثانية كان القراء الانجليز المتعلقون بالكتب يبحثون بشغف بين رفوف الكتب في المكتبة المهدمة السقف في وسط لندن. وبمثل هذه الروح المحبة للقراءة والاطلاع أنتصر الانجليز بينما انهزم الالمان النازيين شر هزيمة بعد أن كانوا في نفس الوقت يحرقون الالاف الكتب في شوارع مدينة برلين.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق