كم من سلاطين ومماليك مصر بيع في سوق النخاسة
د/ أحمد بن حامد الغامدي
رب كلمة قالت لصاحبها دعني، ربما كان هذا حال الحاكم بأمره عبدالفتاح
السيسي المتنفذ العسكري على حكم مصر المحروسة الذي اصبح مساء أمس مادة السخرية
المفضلة على مواقع التواصل الاجتماعي العربية عندما أبدى رغبته في أن (يبيع نفسه)
لكي تساهم الدراهم المعدودة لثمنه في تسديد (ديون مصر) وتحقيق نوع من توازن العدالة
الاجتماعية للطبقات المطحونة من الشعب المصري. ومباشرة بعد كلمة السيسي قام بعض
النشطاء السياسيين في مصر بالتحريج على حاكم مصر وعرضه للبيع على موقع المزادات
الالكتروني الشهير ebay بينما يفكر آخرون بسخرية
أكثر (أناقة) بالتنسيق مع السلطات البريطانية لبيع حاكم مصر من خلال صالة المزادات
الشهيرة كريستي في مدينة لندن.
في وقت الازمات لا يستبعد أن يضطر الحاكم أو السلطان أن يتجرع الهوان
بأن يبيع جزء من مملكته (كما فعل نابليون عندما باع ولاية لويزيانا الفرنسية
للأمريكان) بل البعض قد يبيع او يرهن على الاقل تاج ملكه كما حصل مع البابا
إينوسنت الثامن في القرن الخامس عشر الذي اضطر أن يرهن تاج البابوية لكي يحصل على
المال. الكل يعلم ان مصر المحروسة حاليا في حالة افلاس اقتصادي مخزي وتحتاج للحصول
على المال من أي طريق حتى ولو (ببيع الرئيس) وسبحان الله ما أشبه الليلة بالبراحة
ففي تاريخ أرض الكنانة القديم وصل الفساد الاداري والمالي للدولة انه لم يكن له
مخرج إلا (ببيع أمراء وحكام مصر) في مزاد علني في سوق النخاسة.
هذا ما حصل في أواخر القرن السابع الهجري قبل فترة قصيرة من حكم
(المماليك) لأرض الكنانة فبالرغم من كون المماليك في أواخر حكم الملك الصالح نجم
الدين أيوب (هم حكام البلد وأسياده غير المتوجين) إلا أن العالم الجليل العز بن
عبدالسلام (سلطان العلماء وبائع الملوك) عندما تولى منصب القضاء في مصر بعد قدومه
من الشام وجد أن المماليك يتحكمون في البلد بالبيع والشراء والزواج وهو ما لا يجوز
شرعا ولا يمكن ان يقبل به القاضي حيث أنهم في الاصل عبيد ومماليك وليس لهم في
انفسهم صلاحية التصرف ولهذا أمتنع العز بن عبدالسلام بقوة منصبه الشرعي القضائي أن
يمضي لهم بيعا أو شراء أو زواجا مما تسبب في وقف حال البلد. وبعد ضغوط ومساومات
وتهديد لم يتراجع (القاضي الشامخ) عن قراره واراد ان يخرج من البلد فحصلت حالة
اضطراب شعبية في مصر حيث هدد أعيان البلد وعامة الشعب أن يخرجوا ويهاجروا مع قاضي
الديار المصرية. ولهذا كان الحل الوحيد في رأي سلطان العلماء العز بن عبد السلام
أن يباع (أسياد البلد وحاكمه) من المماليك في المزاد العلني وتودع أموال بيعهم في
بيت مال المسلمين ثم بعد ذلك يتم عتقهم ويعودون أحرارا بعد أن كانوا مماليك.
الغريب في الأمر أن بعض أشهر الحكام والسلاطين الذين حكموا مصر كانوا
في الاصل (عبيد ومماليك) وبهذا حصل في واقع الامر أنه في يوم من الايام في حياة هؤلاء
الحكام لمصر أن تم بيعهم بشكل أو آخر في مزاد وحراج العبيد. ولنبدأ بالشخصية
السياسية التي انشأت مدينة القاهرة عاصمة مصر لمدة زادت عن ألف سنة وكما هو معلوم
أن من مؤسس مدينة القاهرة والخلافة
الفاطمية في مصر كان القائد جوهر الصقلي والذي كان في الاصل فتى مسيحي من جزيرة
صقلية تم خطفه وهو صغير وأستعبد وسبي ومن ثم تم لاحقا (بيعه) في مدينة القيروان
حيث نشأ وترعرع وترقى بالوظائف العسكرية إلى أن فتح مصر لصالح المعز لدين الله
الفاطمي.
وإذا كان احد اهم ملوك وحكام (مصر الفاطمية) هو عبد ورقيق مملوك فليس
غريبا أن نجد أن أهم ملوك وحكام (مصر المملوكية) هم من العبيد والرقيق فهذا أول
حكام دولة المماليك السلطان قطز كان في الاصل أمير من أسرة خوارزم من وسط أسيا تم
اختطافه وبيع وهو طفل في بلاد فارس ثم بيع مره ثانية في شبابه في مدينة دمشق ثم
بيع مره ثالثة في القاهرة. وعلى نفس النسق حذو القذة بالقذة هذا ما حصل كذلك مع
ثاني حكام مصر من المماليك وربما أشهرهم وهو الظاهر بيبرس الذي خطف هو الاخر وهو
طفل من بين أهله من أرض القوقاز ثم بيع في مدينة حماه السورية ثم بيع مره ثانية في
مدينة دمشق ثم بيع مره ثالثة في مدينة القاهرة. ولمن أراد الاستمتاع بقصة العلاقة
الشيقة والمصير المشترك بين الامير قطز والظاهر بيبرس وعلاقتهما في الطفولة
والتنافس بينهما في مرحلة الشباب ومن ثم مؤامرة الظاهر بيبرس لقتل السلطان قطز
فعليه الرجوع للقصة التاريخية البالغة التشويق (وا إسلاماه) للكاتب الكبير على
أحمد با كثير.
وعلى ذكر الروايات التاريخية الشيقة والمتعلقة (ببيع حكام مصر) فتجدر
الاشارة إلى أن آخر المماليك الذين حكموا مصر كان هو السلطان قنصوه الغوري والذي
تسرد رواية (على باب زويلة) للأديب المصري محمد سعيد العريان بأسلوب أدبي رفيع قصة
حياته من اختطافه من بين أهله الشركس في وسط آسيا إلى بيعه في اسواق دمشق ثم بيعه
مره أخرى للأشرف قايتباي الذي اعتقه واتاح له بداية الطريق أن تولى بعد ذلك حكم
عرش مصر قبل أن ينهزم على يد الجيش العثمان في معركة مرج دابق و يتم إعدامه أخيرا
على (باب زويلة) المضجر بدماء اللصوص والامراء.
وكما لاحظنا أرتبط بشكل ما الأدب والرواية القصيصة بحياة ومسيرة حياة
بعض اشهر وأهم الحكام الذين مروا على عرش مصر لكن وبدون منازع من وجهة نظري فإن
اسوء شخصية حاكم أو رئيس تم تصوير لحظة بيعه في سوق النخاسة بصورة أدبية رائعة
استمرت حاضرة في ذاكرة الشعوب عبر القرون كانت ولا شك شخصية كافور الاخشيدي والذي
لم يكن فقط عبد ومملوك حكم مصر لكنه كان كذلك أول عبد مخصي أسود اللون ودميم
الخلقة يحكم مصر. وكما هو معلوم كان كافور مجرد عبد مملوك جلب من الحبشة وبعد ذلك
وثب (ويقال بلغتنا الحديثة أنقلب) على عرش
مصر بعد وفاة سيده محمد بن طغج الذي كان مؤسس الدولة الاخشيدية والذي خلف ولدا
صغير وجعل كافور وصي على العرش والذي وسوست له نفسه الأمارة بالسوء وأحلامه
الشيطانية أن يسيطر على ملك مصر.
وإذا ذكر ابو المسك كافور يذكر ولا بد شاعر العربية الاوحد ابو الطيب
المتنبي والذي تسبب في خلود شهرة وسمعة كافور الاخشيدي عندما هجاه هجاء فادح ومقذع
يكفي أن نذكر منه تصويره لعملية (بيع) حاكم مصر كافور الاخشيد في سوق النخاسة بثمن
بخس لا يزيد عن فلسين ومع ذلك لم يوجد من يرغب في شراءه بهذا الثمن ولهذا يقوم
النخاس بشد أذنه وفركها حتى يدميها تعبيرا عن احتقاره له:
أكُلّمَا اغتَالَ عَبدُ السّوْءِ سَيّدَهُ
|
أوْ خَانَهُ فَلَهُ في مصرَ تَمْهِيدُ
|
صَارَ الخَصِيّ إمَامَ الآبِقِينَ بِهَا
|
فالحُرّ مُسْتَعْبَدٌ وَالعَبْدُ مَعْبُودُ
|
لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصَا مَعَهُ
|
إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ
|
ما كُنتُ أحْسَبُني أحْيَا إلى زَمَنٍ
|
يُسِيءُ بي فيهِ عَبْدٌ وَهْوَ مَحْمُودُ
|
وَأنّ ذا الأسْوَدَ المَثْقُوبَ مَشْفَرُهُ
|
تُطيعُهُ ذي العَضَاريطُ الرّعاديد
|
مَنْ عَلّمَ الأسْوَدَ المَخصِيّ مكرُمَةً
|
أقَوْمُهُ البِيضُ أمْ آبَاؤهُ الصِّيدُ
|
أمْ أُذْنُهُ في يَدِ النّخّاسِ دامِيَةً
|
أمْ قَدْرُهُ وَهْوَ بالفِلْسَينِ مَرْدودُ
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق