الخميس، 22 سبتمبر 2016

(المخترع والعالم سمير ونديم ليالي الملوك )

قديما كان العلماء من ندماء الخلفاء والملوك

د/ أحمد بن حامد الغامدي

قبل يومين حصل لقاء بين الملك سلمان ولفيف ممن وصفوا (بالمثقفين) السعوديين من ابرز الأدباء والكتاب بالمملكة وهذا ما حدا بعض الزملاء بطرح سؤال لمحاولة تعريف من هو المثقف أو المفكر وأنا بدوري أطرح تظلم وليس سؤال عن الإجحاف المتجذر في مجتمعنا المحلي ومنذ القديم على استثناء (العلماء) من توصيف (المثقفين) واخراج العلم من سياق المشهد الثقافي والحصر شبه الكامل لكلمة الثقافة بأهل الأدب وكتاب الصحافة المحزن حقا أن تاريخنا الإسلامي القديم زاخر بالاهتمام بالجوانب العلمية والطبية واعتبارها من أحد مجالات الثقافة بل وحتى مواضيع (الدردشة) التي يمكن أن يسمر في نقاشها كبار القوم من خلفاء وملوك وأمراء مع (ندمائهم) من الأدباء والشعراء والقضاة والعلماء

ومن أبرز الأمثلة في هذا الشأن كتاب (الإمتاع والمؤانسة) للأديب العربي واسع الثقافة أبو حيان التوحيد والذي لخص في كتابه هذا ما كان يجري بينه وبين الوزير أبي عبدالله العارض من (المنادمة) الفكرية والأدبية والفلسفية بل وحتى المسامرة والمنادمة العلمية كما حصل في الليلة العاشرة التي خصصت لاستعراض معلومات علم الحيوان بينما الليلة الرابعة والعشرين طغى عليها (التسامر) بالدردشة حول المعادن وكأنها بذلك أمسية كيميائية ماتعة.

وكما هو معلوم للقاصي والداني اهتمام ورعاية الخليفة العباسي المأمون للعلم والعلماء لدرجة انشأه للصرح العلمي الخالد (بيت الحكمة) لكن الامر غير المشهور أن الخليفة المأمون كثيرا ما يعقد ويقيم مجالس العلم والنقاش والمناظرات بين العلماء في قصره الخاص ولهذا لا نعجب أن نجده يختار عالم الرياضيات المشهور الخوارزمي ليكون أكثر التصاقا به حيث عينه كأمين لخزانة الكتب بقصر الخلافة في بغداد. وهذا الخليفة العباسي المعتضد يهتم كثيرا بالعالم والطبيب والفلكي العربي ثابت بن قرة ويضمه إلى بلاطة ونتيجة لنبوغه كان الخليفة يجلسه الى جواره ويمازحه دون سائر خاصته وكذلك كان الخليفة المعتصم يجل ويقدر ثابت بن قرة بكثير من الاحترام والتوقير لدرجة أنه عندما كانا يمشيان معا في حديقة الفردوس ووضع الخليفة يده على يد ثابت بن قره اعتذر الخليفة فجأة بقولة (أبا الحسن .. سهوت ووضعت يدي فوق يدك .. وليس هكذا يجب أن يكون الوضع فالعلماء يَعلون ولا يُعلون).

وعالم الفيزياء الشهير الشهير ابو الريحان البيروني كان له مكانه كبيرة لدى حاكم خوارزم لدرجه انه اتخذه مستشارا له وأسكنه في قصره. والفلكي والرياضي والمسلم عمر الخيام عاش في كنف ورعاية الوزير السلجوقي نظام الملك الذي اشتهر هو الاخر برعاية العلوم والفنون وبتأسيس المدرسة النظامية في بغداد وفي ثمان مدن أخرى وبحكم أن عمر الخيام كان شاعرا وعالما وفيلسوفا في نفس الوقت فقد كان خير نديم للوزير نظام الملك ومن قبله السلطان جلال الدين ملك شاه.

وإذا كان بعض الملوك والامراء يفضل أن يحي ويشارك في (الامسيات العلمية) ففي المقابل نجد نوع أخر من الملوك له عادة غريبة في عقد (الاصبوحات العلمية) وهذا ما حصل مع عالم الرياضيات الفرنسي الشهير رينية ديكارت الذي عمل كمدرس خاص لملكة السويد كرستينا وقد تبين لاحقا بأن ذلك كان غلطة العمر لديكارت. السبب في ذلك أن هذه الملكة كانت في تلك الفترة صغيرة السن تبلغ من العمر 19 سنة فقط وهي مع ذلك كانت امرأة عنيدة وشديدة المراس. ولأنها كانت شابة ونشيطة بدنيا فكانت تصر على ديكارت بأن تبدأ الدروس الخاصة لها في الساعة الخامسة صباحا وليس هذا وحسب بل المصيبة أن تلك الدروس كانت تتم في مكتبة باردة جدا ومن هنا أصيب العالم الكبير بمرض قاتل في الرئة لم يمهله إلا خمسة اشهر بعد تلك الصحبة الملكية المشؤمة.

وعلى ذكر دراسة كبار رجال السياسة على أيدي كبار رجال العلم تجدر الاشارة إلى أن عالم الكيمياء الفرنسي كلود بيرتولية أحد أبرز علماء الكيمياء في بدايات القرن التاسع عشر كان قد صاحب نابليون بونابرت (مع غيرة من العلماء و المكتشفين) في حملته العسكرية على مصر وقد كانت الصداقة بينهما قوية لدرجة أن نابليون طلب أن يدرس علم الكيمياء على يد بيرتولية. وحصل أمر مشابه تقريبا مع أبرز علماء الكيمياء في القرن التسع عشر في السويد وهو الكيمياء برزيليوس الذي اكتشف عدد من عناصر الجدول الدوري حيث نجده هو الاخر يقوم بتدريس علم الكيمياء لملك السويد كارل الرابع عشر وولي عهده الامير أوسكار.

ولعلنا نخصص ما تبقى من هذا التطواف العلمي الممزوج بالسياسة بذكر أبرز العلماء والمكتشفين الذي كان لهم جوانب (ثقافية) مميزة في مجال الادب والشعر. فبالرغم من أن الشاعر والاديب الانجليزي الشهير بيرسي شيلي يقول في كتابه (دفاع عن الشعر): إن الشاعرية تتواري خلف الحقائق والمعادلات الحسابية إلا أن تاريخ العلم حوى عدد كبير من سير العلماء الذين كان لهم ملكات ادبية من الطراز الأول فمن ذلك مثلا الطبيب المسلم الكبير ابن سينا كان له باع كبير في علم اللغة العربية وألف فيها كتاب لسان العرب كما له أرجوزته المشهورة في الطب ولكن الأهم من ذلك أن أبن سينا يعتبر من أبرز ما يمكن تسميتهم ( الشعراء العلماء) وله في ذلك قصيدته المشهورة التي تعتبر من عيون الشعر العربي والتي مطلعها :

هبطت إليك من المحل الارفع              ورقاء ذات تعزز وتمنع

والعالم العربي أبن النفيس بالرغم من شهرته في الطب بسبب اكتشافه للدورة الدموية الصغرى إلا أنه كان له اهتمام بعلوم ومعارف أخرى مثل النحو والادب العربي لدرجة أن أحد علماء اللغة يعرف بأبن النحاس كان يقول (لا أرضى بكلام أحد في القاهرة في النحو إلا إبن النفيس). وايضا من العلماء الادباء يذكر الطبيب الاندلسي بأبن زهر الحفيد والذي اشتهر بصفه خاصة بنظم الموشحات الاندلسية والتي انفرد في عصره بإجادتها حتى أن أبن خلدون ذكر في مقدمته عنده حديثه عن الموشحات أن موشحات أبن زهر اشتهرت كثيرا وأنها قد شرقت وغربت في البلاد. ومن أشهر موشحاته الجميلة الذائعة الصيت تلك التي مطلعها:

أيها الساقي إليك المشتكى            قد دعوناك وإن لم تسمع

والاغرب من ذلك أن العالم المسلم أبو الريحان البيروني عالم الفيزياء والجغرافيا الشهير لم يكن بعيد هو الآخر عن دنيا الادب بدليل قيامة بتأليف كتاب خاص يشرح فيه ديوان أبي تمام وله كتاب آخر سماه مختار الاشعار والآثار وهذا عالم الفلك والمخترع العربي المعروف عباس بن فرناس الذي اشتهر بمحاولته للطيران عن طريق القفز من أعلى مئذنة مسجد قرطبة الكبير تذكر المصادر التاريخية انه كان شاعرا مبدع لدرجة أنه كان يوصف بأنه من شعراء البلاط الاندلسي كما أنه نبغ وتميز في علم النحو لدرجة أن العلماء صنفوه في مرتبة متقدمة من نحاة الاندلس.

وفيما يخص العلماء الغربيين يكفي أن نشير أن عالم الرياضيات البريطاني الشهير برتراند راسل استاذ علم الرياضيات في جامعة كامبريدج العريقة والفيلسوف والمفكر العالمي المشهور تم منحه جائزة نوبل في الادب عام 1950 وذلك بسبب اسلوبه الرائع في الكتابة وعلى نفس النسق نجد أن الطبيب الانجليزي السير رونالد روس مكتشف ميكروب مرض  الملاريا والحاصل على جائزة نوبل في الطب عام 1902كان له شغف بالأدب لدرجة أنه قام بنشر العديد من الاشعار وبعض الروايات الادبية وأطرف قصائده الشعرية تلك التي خصصها لتصوير بهجته وسروره باكتشاف ميكروب تافه في معدة انثى بعوضة الانوفليس.

وفي الجانب الكيميائي من قصة تداخل العلوم بالأدب نجد أن الكيميائي الامريكي روالد هوفمان الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1981 يعتبر من اشهر العلماء المعاصرين اليوم الذين مزجوا الشعر و الادب بالعلم حيث تمثلت موهبته الادبية في ابداع خمسة دواوين شعرية متنوعة. بينما نجد أن استاذ الكيمياء العضوية المتميز في جامعة ستانفورد كارل ديجراسي المشهور بلقب أبو حبوب منع الحمل حيث قام هو وفريقة العلمي باختراع هذه الحبة الخطيرة كان له هو الآخر مواهبة الادبية التي تمثلت في تأليف عدد من المسرحيات الادبية بالإضافة لنشر عدد كبير من القصائد الشعرية
ومن الشخصيات الكيميائية ذات البعد الادبي المحترم نجد أن السير هينشيلوود الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1956 كان يعتبر خبيرا في علم اللسانيات و لفرط شهرته و قدرته اللغوية اختير رئيس للاتحاد الكلاسيك الادبي في نفس الوقت الذى كان يشغل رئيس الجمعية الملكية وهو الشخص الوحيد الذي جمع رئاسة هاتين المؤسستين العلمية والادبية في نفس الوقت.

وختاما توجد مقولة مشهورة للمجرم جوزيف غوبلز وزير الدعاية في عهد هتلر (كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي) وأما أنا وافراد قبيلتي من العلماء والمخترعين والمكتشفين (فكلما سمعنا كلمة ثقافة تحسسنا قلوبنا المنفطرة بإقصائنا عنها.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق